Home » » 1- الحسابات الفلكية وإثبات شهر رمضان

1- الحسابات الفلكية وإثبات شهر رمضان

Written By Pelatihan blog on Sabtu, 21 Januari 2012 | 02.34

المدخل إلى البحث:

إن الموضوع الذي نحن بصدده في هذا البحث و هو الإعتماد على الحسابات الفلكية في تحديد الشهور الإسلامية هو موضوع مطروح على الساحة الفقهية منذ عصر التابعين، فهو ليس وليد العصر، بل المناقشة فيه قديمة قدم الفقه الإسلامي نفسه، و تدور الآراء فيه بين مؤيد و ممانع و بين من يقبله بحدود معينة و من يرفضه جملة و تفصيلاً. و نظراً لتزايد الحاجة إلى الاستقرار على رأي محدد في هذا الموضوع و ذلك لأسباب سوف نشرحها لاحقاً في بحثنا هذا، فإننا و جدنا أنه من المفيد بل و من الضروري مناقشة هذا الأمر مناقشة فقهية عميقة و شاملة تسهل لنا الخلوص إلى رأي فقهي نطمئن إلى صحته و نفعه.

و عليه, فقد قلنا أن المناقشة في هذا الموضوع بدأت منذ عصر التابعين. حيث روي أن التابعي الشهير مطرف بن عبد الله بن الشخير أجاز استخدام الحسابات الفلكية في إثبات شهر رمضان عندما يكون الطقس غائماً مما يسبب عدم وضوح الرؤية و من ثم عدم إمكانية رؤية الهلال بالعين المجردة. كما روي بأن الفقيه الشافعي المعروف أبو العباس بن سريج قال بأن صاحب الحسابات الفلكية يمكن له الاعتماد على حساباته، و أن خطاب النبي ( ص ) في حديثه المشهور ( صوموا لرؤيته و أفطروا لرؤيته ) هو خطاب لعامة المسلمين، و أن الحديث ( فإن غم عليكم فاقدوا له ) يعني - قدروا منازل القمر- هو خطاب لأهل الفلك أو الذين يعرفون سير الكواكب و الحسابات المتعلقة بمنازل القمر. كما روي أن الإمام تاج الدين السبكي المجتهد الشافعي المعروف قبل استخدام الحسابات الفلكية في إثبات شهر رمضان في حالة الطقس الغائم، و رد شهادة الشهود برؤية الهلال بالعين المجردة إذا دلت الحسابات الفلكية على عدم إمكانية وجود الهلال في الأفق. و ذلك أن الإمام كان يرى أن الحسابات قطعية و الرؤية ظنية، فإذا قطعت الحسابات الفلكية بأن الهلال لا يمكن أن يوجد في الأفق، و شهد شاهد أو شاهدان على رؤيتهما له، فإننا لا نأخذ بكلام الشهود لأن كلامهم يحتمل الخطأ و رؤيتهم بالعين المجردة تحتمل الزيغ، بينما الحسابات الفلكية قاطعة الثبوت، و شرعاً لا يمكن أن يعادل الشك اليقين و لا يمكن أن يقدم الشك على اليقين، لأنه من المستحيل رؤية الهلال إذا لم يكن قد ولد بعد، والشرع لا يقبل بالمستحيلات ولا يعتمدها و لا يعتمد عليها.

إلا أن جمهور العلماء في المدارس الفقهية الأربعة المشهورة رفضوا الحسابات الفلكية رفضاً باتاً. سواءً لإثبات بدايات الشهور الإسلامية القمرية أم لنفيها، و قطعوا مستدليين بالآيات القرآنية و الأحاديث الشريفة بأن الشهر الإسلامي لا يثبت إلا بالرؤية بالعين المجردة للهلال، أو بإكمال الشهر ثلاثين يوماً. كما ادعى الكثير من علماء السلف والخلف أن هناك إجماعاً بين علماء الأمة على اعتبار الرؤية بالعين المجردة للهلال هي بحد ذاتها السبب الشرعي لإثبات بداية شهر رمضان. كثير منهم أيضاً رفض استخدام الحسابات الفلكية لأنها تعتمد على علم النجوم المنهي عنه في أحاديث نبوية عديدة. و رأوا أن من يقوم على تلك الحسابات هم منجمون يدعون معرفة الغيب و يضللون الناس ضلالاً شديداً. أضف إلى ذلك رؤية هؤلاء الفقهاء لحديث النبي ( ص ) ( نحن أمة أمية لا نكتب و لا نحسب )، و اعتبارهم أن الحسابات الفلكية غير دقيقة و معتمدة على الحدس و التخمين، فمن كل ما تقدم ذهب الكثير من أولئك الفقهاء إلى تكفير أصحاب الفلك و أصحاب علم النجوم لأنهم وكما يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني: (شياطين الإنس ).

و نحن نقول أنه لا يوجد في القرآن الكريم أي آية صريحة تقول أن الرؤية البصرية بالعين المجردة للإنسان هي بحد ذاتها مطلب شرعي لإثبات دخول شهر الصيام، ولا يمكن حتى أن نجد في الكتاب العزيز أي كلمة أو إشارة قطعية الدلالة توجب الرؤية البصرية بالعين المجردة كوسيلة حتمية لإثبات أو وجوب أو دخول شهرالصوم.
بينما الأمر يختلف قليلاً بالنسبة للسنة المطهرة، حيث نجد هناك أحاديث عديدة يدل ظاهرها على أن الرؤية البصرية للهلال بالعين المجردة هي السبب الشرعي لوجوب الصيام، و من ذلك قوله ( ص ): ( صوموا لرؤيته و أفطروا لرؤيته )، و في حديث آخر: ( لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه ). تلك الأحاديث و ما شاكلها حملت من قبل الكثير من علماء الأمة على أنها أمر مباشر من النبي ( ص ) باستخدام الرؤية البصرية بالعين المجردة كوسيلة شرعية مفروضة لإثبات دخول شهر رمضان. و قالوا أن الرؤية بالعين المجردة هي مطلوبة شرعاً بحد ذاتها و لا يجوز استبدالها بطرق أخرى لأن هذا فيه مخالفة للشرع و خرق للسنة. إلا أننا عندما نتعمق في أحاديث النبي ( ص ) المتعلقة بهذا الشأن و نجمعها كلها على طاولة واحدة و نغوص في أعماقها و نحللها تحليلاً عميقاً دقيقاً و ندرس الروايات المختلفة الواردة في هذا الباب نستخلص أن الرؤية البصرية بالعين المجردة للإنسان ليست هي الطريقة الوحيدة المعتمد عليها نبوياً أو شرعياً لإثبات الشهر، كما أنها ليست هي مفروضة بذاتها لتحديد دخول شهر رمضان، فهناك بدائل أخرى مثل إكمال شهر رمضان أو إكمال شهر شعبان ثلاثين يوماً، و مثل تحديد بداية الشهر بالتقدير كما ورد في حديثه ( ص ): ( فإن غم عليكم فأكملوا العدة ) أو ( فإن غم عليكم فاقدوا له ). على أن الكثير من علماء الأمة مثل ابن عمر و الإمام أحمد ابن حنبل فسروا قول النبي ( ص ): ( فاقدروا له ) بمعنى ضيقوا الشهر و هذا المعنى وارد في اللغة العربية حيث قال الله تعالى ( الله يبسط الرزق لم يشاء و يقدر) أي الله يبسط الرزق لمن يشاء و يضيق الرزق على من يشاء، أما مطرف بن عبد الله بن الشخير و ابن سريج فقد ذهبا في تفسير كلمة ( فاقدوا له ) إلى معنى التقدير، أي قدروا منازل القمر. فمن هنا نجد:

أولاً: أنه ليس هناك إجماع بين علماء الأمة منذ القديم على أن الرؤية البصرية بالعين المجردة، أو الإكمال ثلاثين يوماً هما الطريقتان الوحيدتان لإثبات دخول شهر رمضان.

ثانياً:ً أن الرؤية بالعين المجردة غير مطلوبة بعد اليوم الثلاثين من شهر شعبان، ذلك أن الشهر لا يمكن أن يمتد لأكثر من ثلاثين يوماً، فيحصل بذلك اليقين بأن شهر رمضان قد بدأ دون اللجوء إلى الرؤية فتنتفي الحاجة إلى استخدمها.
نستنتج مما تقدم: أن الأحاديث النبوية تستهدف في حقيقتها اليقين، اليقين عند الدخول في العبادة، و اليقين عند الخروج منها.

إما إذا احتج أحدهم بقوله أن الرؤية غير مطلوبة في الثلاثين من شعبان لأن الرسول ( ص ) أمر بالإكمال في حالة وجود الغمام، و أن كلا الوسيلتين الرؤية أو الإكمال في حالة الطقس الغائم هما وسيلتان نبويتان في تحديد الشهر. فإننا نقول لهم أن الرسول ( ص ) قد حدد وسيلة الإكمال في حالة الطقس الغائم, ( فإن غم عليكم فأكملوا العدة ). أي ربط ( ص ) العلة بسببها، فالعلة هي إكمال العدة و السبب هو وجود الطقس الغائم الذي يحول دون رؤية الهلال في التاسع والعشرين. و معروف شرعاً و عقلاً التلازم بين السبب و المسبب، و الربط بين وجود العلة و سبب و جودها عدماً و وجوداً، نفياً و إثباتاً، و لكنهم يكملون العدة إذا لم يروا الهلال في اليوم التاسع و العشرين سواء أكان الطقس غائماً أو صحواً. فلم لا يتحرون رؤية الهلال في اليوم الثلاثين إذا كان الطقس صحواً في التاسع والعشرين؟!، بل أنهم يعلنون تلقائياً و من نهاية الوقت المفروض لتحري الهلال في التاسع والعشرين يعلنون أن اليوم التالي سيكون اليوم الثلاثين من شعبان و أن الأول من رمضان سيكون هو اليوم الذي يليه دون أن يقول أحدهم يجب أن ننتظر الغد و هو الثلاثين من شعبان و نتحرى الهلال، حيث أن النبي ( ص ) طالب بالإكمال في حالة الطقس الغائم و الطقس هنا كما ذكرنا كان صحوا في التاسع و العشرين من شعبان لكنهم ما استطاعوا رؤية الهلال ذلك اليوم. من هنا نستنتح أنهم فعلوا ذلك لإيمانهم و يقينهم أن الشهر الإسلامي لا يمكن أن يكون واحداً و ثلاثين يوماً، و أن الهلال لا بد و أن يكون موجوداً في الأفق. إذاً صار عندهم اليقين بأن شهر رمضان كائن بعد الثلاثين من شعبان و لا حاجة لتحري الرؤية. لذا فإننا نستخدم حجتهم و نستخدم تطبيقاتهم للوصول إلى النتيجة التالية: أن الرؤية البصرية ليست هي الهدف و ليست هي المطلوبة بحد ذاتها، وإنما اليقين هو الهدف و هو المطلوب بحد ذاته، وأن الرؤية هي وسيلة متاحة للوصول إلى اليقين، فمتى وصلنا إلى اليقين ببداية الشهر فإننا نثبته سواءً أكان للرؤية مكان أم لم يكن، و هذا هو بيت القصيد.

فلو كان حديثا النبي ( ص ) اللذان يطالبان بالرؤية البصرية سواءً بالصيغة الإيجابية أو الصيغة السلبية كقوله ( ص ): ( صوموا لرؤيته و أفطروا لرؤيته )، و قوله: ( لا تصوموا حتى تروه و لا تفطروا حتى تروه ). لوكان هذان الحديثان يحددان الرؤية البصرية على أنها الوسيلة الوحيدة لتعيين بداية و نهاية الصوم فما معنى أن يقول العلماء بإكمال العدة ثلاثين يوماً حتى و إن لم يكن الطقس غائماً في التاسع و العشرين و مع أن الرسول ( ص ) حدد الطقس الغائم على أنه سبب الاستثناء في عد استخدام الرؤية، هذا إذا أخذنا بظاهر الحديث.

كما أننا سنرى في طيات بحثنا هذا أن الادعاء بوجود إجماع بين علماء المسلمين على رفض استخدام الحسابات الفلكية رفضا باتا هو إدعاء باطل، غير صحيح، و لا يمت إلى الحقيقة بصلة. إذاً لا يوجد إجماع بين علماء المسلمين على رفض تلك الحسابات لا في الإثبات و لا في النفي، ولكن معظم السلف رفضها و كان السبب في موقفهم ذاك هو ما كانت عليه الحال من أمية الأمة، و من ضلال أصحاب النجوم في ذلك العصر، و عدم الدقة في تقدير الحسابات و في معرفة سير الكواكب و منازل القمر، أضف إلى ذلك الخوف من افتتان الناس فيما يتعلق بالأمور العقدية مثل العلم بالغيب. و من الأسباب القوية التي دفعت بهم لرفض الحسابات هو اعتماد اليهود عليها في التوفيق بين سنتهم القمرية والشمسية. و إذا كنا نفهم الأسباب التي أدت بأولئك العلماء لقول ما قالوا، و نرى أن الأسباب التي قدموها أسباباً مقنعةً، وجيهةً، جديرةً بالأخذ بعين الاعتبار. إلا أننا نعرف تمام المعرفة أن الأسباب التي استندوا عليها لم يعد لمعظمها وجود في زماننا هذا، و لم تعد سبباً مقنعاً للرفض أو التحريم إذ أنها تغيرت عما كانت عليه في ذلك العصر، فالأمة الآن لم تعد أمية و إن كان مازال فيها أميين، إلا أن المتعلمين فيها صاروا أكثر من أن يعدوا، و صار العلم متفشياً بحيث لم يعد يقتصر على ثلة من الناس, هذا أولاً، أما ثانياً فإن المتعاطين هذه الأمور و الخائضين هذا المجال لم يعودوا مجرد مشعوذين أو دجالين أو مدعي غيب، بل هم علماء درسوا هذا المجال بأسسه العلمية و الرياضية الدقيقة التي لا تحتمل الخطأ ولو كان واحد بالألف. و هم بدورهم غير مرتبطين لا بالديانة اليهودية ولا بالديانة المسيحية بل هم مجرد علماء محايدون يدرسون العلم للعلم.

نحن هنا نتكلم عن علماء الفلك الذين يدرسون الأجرام السماوية والكواكب و يستطيعون من خلالها تحديد أوقات ولادة القمر و حركة النجوم والكواكب والذين نعتمد عليهم في معرفة تقويم السنة وأوقات الصلاة وأوقات الإفطار و الإمساك في رمضان، ولا نتكلم عن الذين يدعون معرفة النجوم و حركاتها و أفلاكها ليقولوا لنا الحظ أو أيام السعد أو ما شاكل ذلك – إذاً قد أوضحنا أن الأسباب التي استند إليها علماء السلف قد تغيرت، فلم تعد الأمة أمية، و لم يعد علماء الفلك مشعوذون، كما أن الحسابات الفلكية لم تعد غير دقيقة أو مشكوك في صحتها، بل على العكس من ذلك تماماً، حيث أن هذا العلم وصل في زماننا هذا إلى دقة مدهشة، يقينية، لا يوجد فيها مجال للشك أو النقاش. فكما يقول أصحاب هذا العلم أنهم لو أرسلوا إبرة في الفضاء لوصلوا إليها بأدواتهم العلمية البحتة، و إذ قلنا – أدواتهم العلمية البحتة – فهذا يقودنا إلى أن كل ما يقومون فيه هو معرفة الوقائع و حساب الحركة الرتيبة والسرعة فبعملية حسابية رقمية دقيقة يعرفون متى سوف يولد القمر و باقي التفاصيل الأخرى. من هنا نستنتج كما هو معروف أن هذا العلم لم يعد علماً مرتبطاً بالأمور الغيبية، و لم يعد عالم الفلك يدعي بأي حال من الأحوال أنه عالم بالغيب، إذاً فلم يعد علم الفلك يعد خطراً و فتنةً يخشى منها على الأمة.

فهكذا نرى أن الأسباب التي اعتمد عليها فقهاء السلف في رفض الحسابات الفلكية هي أسباب لم يعد لها وجود. فلم يبقى الحكم موجوداً إذا لم يعد لعلته وجود؟. و قد أسلفنا سابقاً أن العلة و المعلول شيئان متلازمان لزوم السبب بالمسبب، و هذه قاعدة إسلامية، فقهية، عقلية، معروفة و متفق عليها. و كان في تاريخ الإسلام حوادث مشابهة حيث تم تغيير الحكم الذي عمل الناس بموجبه فترة من الزمان لأن السبب قد تغير، و لنا فيما عمل الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه و أرضاه مثالاً واضحاً في هذا و في أن الإسلام دين غير متحجر، و غير جامد، و أنه دين مقاصد لا دين طقوس جامدة فارغة من المعنى، فا لمقصد هو الذي يدور حوله الحكم، يتغير بتغيره و يدور معه حيث دار. فالحكم يتبع القصد و لا يتبع القصد الحكم. و هذا من أسرار استمرار هذه الرسالة الخالدة. و عودة لما فعل ثاني الخلفاء الراشدين حيث أنه ألغى حكماً ثابتاً في القرآن و السنة ثبوتاً قطعياً لأنه رأى أن الأسباب تغيرت لذا لم يعد هناك أي مبرر للبقاء على الحكم، فقد ألغى رضى الله عنه باباً من أبواب تصريف الزكاة وهو ( المؤلفة قلوبهم ) حيث قال ( ر ) أن الإسلام أصبح من القوة و الثبات بحيث لا يحتاج إلى تأليف قلب أحد، و ألغى ( ر ) حكماً ثبت في القرآن الكريم، واضح الدلالة و ضوحاً قطعياً لا يحتمل التأويل، و سيدنا عمر يعرف هذا و هو لم يؤوله تأويلاً مختلفاً بل هو اعترف به و لكن وجد أن العلة لم تعد موجودة، كما أن هذا الحكم عمل به الرسول ( ص ) و من بعده أبا بكر ( ر )، و مع ذلك فإن عمر بن الخطاب ( ر ) لم يجد أي حرج في إلغاء حكم ثابت في القرآن، ثابت في السنة، ثابت في فعل أول خليفة للمسلمين أبي بكر الصديق، لأنه رضي الله عنه و أرضاه فهم و فقه أمور و جوهر الدين الحنيف و عمل على أساسه، و من اللافت للنظر أن الصحابة الكرام لم يثوروا عليه، و لم يتهموه بتغييرالدين و تحريف السنة و الاعتماد على رأيه بدل النصوص الشرعية الثابتة، فما أن شرح لهم ( ر ) وجهة نظره و تحليلة للأمر حتى وافق الجميع رضي الله عنهم و أرضاهم. و لعمر بن الخطاب مواقف يضيق المجال هنا عن ذكرها لكنها تصب في نفس الخانة و هي مصلحة الأمة، والتيسير، و اربتاط العلة بالحكم.

و هنا الموقف لا يختلف بالنسبة لاستخدام الحسابات الفلكية بدل تحري الرؤية بالعين المجردة لا جملة و لا تفصيلاً، فالحسابات الفلكية تؤدي المقصد الذي ذهب إليه الشارع في المطالبة بالرؤية بالعين المجردة، و القصد هو الدقة في الدخول في شهر العبادة و الدقة في الخروج منه، و هذا المقصد يتحقق باستخدام الحسابات الفلكية أكثر بكثير من تحققة باستخدام العين، حيث أن استخدام الرؤية يعتمد على كثير من العوامل الخارجية التي تؤثر في صحته و دقته، فمن حالة الغمام والصحو، إلى قوة الرؤية و البصر عند الرجل، إلى قرب الهلال من الشمس أو بعده عنها, والكثير من العوامل الأخرى التي تجعل الرؤية أمراً ظنياً بينما الحسابات الفلكية كما أسلفنا و كما نعرف يقيناً هي قطعية الثبوت و قطعية الدقة.
و تاريخنا الإسلامي و الفقهي زاخر بمثل هذه الأحداث التي تغير فيها الحكم بتغير العلة، و لا ننسى هنا أن كل جديد محارب، و كل ما هو خارج عن العادة والمألوف مرفوض إلى حين، ثم عندما تثبت صحته و يطمئن له الخلق يصبح هو العادة و هو المألوف، و يصبح من خولف و من هوجم بالأمس على رأيه من المجتهدين و الفقهاء ذوي البصيرة. هذه هي سنة الله في خلقه يرفضون كل جديد فقط لأنه جديد، حتى دين الله و توحيده رفض بنفس الحجة ( ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ). ثم عندما تبين الخلق صحة هذا الدين و عدله دخولوا فيه أفواجا.

و ما موضوع استخدام الحسابات الفلكية إلا واحد من هذه الأمور التي رفضت في بداية طرحها فقط لأنها غير مألوفة و على غير ما جرت به العادة عند المسلمين. و كذلك كان الحال في بداية استخدام تلك الحسابات في تحديد اتجاهات القبلة. حيث ثار الكثيرمن العلماء مثل الإمام أحمد بن حنبل و ابن رجب الحنبلي و غيرهم من أجلاء الفقهاء، ثاروا ضدها و اعتبروها ضلالاً و تضليلاً للمسلمين و استخدامها يعني أن صلاة الصحابة كانت باطلة عندما فتحوا المدن و حددوا القبلة ما بين الشرق والغرب و صلوا على هذا الأساس. يقول زين الدين عبد الرحمن بن أحمد المشهور بإبن رجب الحنبلي:
"فتبين أن ديننا لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب ، كما يفعله أهل الكتاب من ضبط عباداتهم بمسير الشمس وحسباناتها ، وأن ديننا في ميقات الصيام معلق بما يرى بالبصر وهو رؤية الهلال ، فإن غم أكملنا عدة الشهر ولم نحتج إلى حساب. وإنما علق بالشمس مقدار النهار الذي يجب الصيام فيه ، وهو متعلق بأمر مشاهد بالبصر - أيضا - ، فأوله طلوع الفجر الثاني ، وهو مبدأ ظهور الشمس على وجه الأرض ، وآخره غروب الشمس.كما علق بمسير الشمس أوقات الصلاة ، فصلاة الفجر أول وقتها طلوع هذا الفجر ، وآخره طلوع الشمس ، وأول وقت الظهر زوال الشمس ، وآخره مصير ظل كل شيء مثله ، وهو أول وقت العصر ، وآخره اصفرار الشمس أو غروبها ، وهو أول وقت المغرب ، وآخره غروب الشفق ، وهو أول وقت العشاء ، وآخره نصف الليل أو ثلثه ، ويمتد وقت أهل الأعذار إلى طلوع الفجر ، فهذا كله غير محتاج إلى حساب ولا كتاب. وكذلك القبلة ، لا تحتاج إلى حساب ولا كتاب ، وإنما تعرف في المدينة وما سامتها من الشام والعراق وخراسان بما بين المشرق والمغرب".

ونقل الأثرم "عن أحمد ، أنه قيل له : قبلة أهل بغداد على الجدي ؟ فجعل ينكر أمر الجدي ، فقال : أيش الجدي ؟ ولكن على حديث عمر : (ما بين المشرق والمغرب قبلة)".

و يقول ابن رحب أيضاً:
"وقد تقدم نصه على أن من مال في صلاته إلى أحد الشقين ، ولم يخرج عما بين المشرق والمغرب فصلاته تامة ، وأن كان الأفضل أن يتوخى الوسط بينهما . ويدل على ذلك : أن الصحابة - رضي الله عنهم - لما فتحوا الأمصار وضعوا قبل كثير منها على الجهة ، بحيث لا يطابق ذلك سمت العين على الوجه الذي يعرفه أهل الحساب ، وصلوا إليها ، وأجمع المسلمون بعدهم على الصلاة إليها ، وهذا يدل على أن تحرير حساب مسامة العين ليس هو الأفضل ، فضلا عن أن يكون واجبا . ولهذا ؛ لما خالف في ذلك كثير من الفقهاء المتأخرين ، واستحبوا مراعاة العين أو أوجبوه ، واستدلوا على ذلك بالنجوم ونحوها رأوا أن كثيرا من قبل البلدان منحرفة عن القبلة ، فأوجب لهم ذلك الحيرة والشك في حال سلف الأمة من الصحابة ومن بعدهم . وقد أوجب بعضهم مراعاة ذلك وأمر بهدم كل قبلة موضوعة على خلافه ، كما ذكره حرب الكرماني ، وهذا يفضي إلى تضليل سلف الأمة ، والطعن في صلاتهم".

انظر كيف كان الأمر في بدايته ثم انظر الآن كيف صار استخدام الحسابات الفلكية هو الأساس في تحديد القبلة و الاتجاهات.

و كذلك الحال بالنسبة لمواقيت الصلوات الخمس حيث رفضها معظم الفقهاء من جميع المدارس الفقهية رفضاً باتاً في بداية الأمر. و أمروا المسلمين بالالتزام بالسنة والأحاديث الشريفة التي تحدد ظل الشمس و ظل الرجل وسيلةً وحيدةً لتعيين أوقات الصلوات.
"وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : الْحِسَابُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ"
و على سبيل المثال أيضا فإن غالبية فقهاء المالكية قد رفضوا الاعتماد على الحسابات في تحديد أوقات الصلوات رفضاً شديداً و حاربوا في ذلك أحد فقهاءهم ألا و هو الإمام القرافي لأنه ذهب مع استخدام الحسابات الفلكية في تحديد أوقات الصلاة.

يذكر الإمام أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي:
"الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَذَلِكَ أَنَّهُ جَرَتْ عَادَةُ الْمُؤَذِّنِينَ وَأَرْبَابِ الْمَوَاقِيتِ بِتَيْسِيرِ دَرَجِ الْفَلَكِ فَإِذَا شَاهَدُوا الْمُتَوَسِّطَ مِنْ دَرَجِ الْفَلَكِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ دَرَجِ الْفَلَكِ الَّذِي يَقْتَضِي أَنَّ دَرَجَةَ الشَّمْسِ قَرُبَتْ مِنْ الْأُفُقِ قُرْبًا يَقْتَضِي أَنَّ الْفَجْرَ طَلَعَ أَمَرُوا النَّاسَ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ مَعَ أَنَّ الْأُفُقَ يَكُونُ صَاحِيًا لَا يَخْفَى فِيهِ طُلُوعُ الْفَجْرِ لَوْ طَلَعَ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَجِدُ الْإِنْسَانُ لِلْفَجْرِ أَثَرًا أَلْبَتَّةَ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَصَبَ سَبَبَ وُجُوبٍ لِلصَّلَاةِ ظُهُورَ الْفَجْرِ فَوْقَ الْأُفُقِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ فَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ حِينَئِذٍ فَإِنَّهُ إيقَاعٌ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا وَبِدُونِ سَبَبِهَا ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ إثْبَاتِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ ( فَإِنْ قُلْت ) هَذَا جُنُوحٌ مِنْك إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الرُّؤْيَةِ ، وَأَنْتَ قَدْ فَرَّقْت بَيْنَ الْبَابَيْنِ ، وَمَيَّزْت بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ بِالرُّؤْيَةِ وَعَدَمِهَا ، وَقُلْت السَّبَبُ فِي الْأَهِلَّةِ الرُّؤْيَةُ وَفِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ تَحْقِيقُ الْوَقْتِ دُونَ رُؤْيَتِهِ فَحَيْثُ اشْتَرَطْت الرُّؤْيَةَ فَقَدْ أَبْطَلْت مَا ذَكَرْته مِنْ الْفَرْقِ ."

يجيب القرافي عن ذلك بقوله:
"قُلْت سُؤَالٌ حَسَنٌ ( وَالْجَوَابُ عَنْهُ ) أَنِّي لَمْ أَشْتَرِطْ الرُّؤْيَةَ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ لَكِنِّي جَعَلَتْ عَدَمَ اطِّلَاعِ الْحِسِّ عَلَى عَدَمِ الْفَجْرِ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِهِ وَأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَتَحَقَّقْ ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ هِيَ السَّبَبُ وَنَظِيرُهُ فِي الْأَهِلَّةِ لَوْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَالْجَمْعُ ثير وَلَمْ يُرَ الْهِلَالَ جَعَلْت ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ خُلُوصِ الْهِلَالِ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ . وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَيْت الظِّلَّ عِنْدَ الزَّوَالِ مَائِلً لِجِهَةِ الْمَغْرِبِ ، وَلَمْ أَرَهُ مَائِلًا إلَى جِهَةِ الْمَشْرِقِ بَلْ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ جَعَلْت ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ دُخُولِ الْوَقْتِ وَعَدَم السَّبَبِ فَفَرْقٌ بَيْنَ كَوْنِ الْحِسِّ سَبَبًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ دَالًّا عَلَى عَدَمِ السَّبَبِ فَإِنِّي فِي الْفَجْرِ جَعَلْته دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ السَّبَبِ لَا أَنِّي اشْتَرَطْت الرُّؤْيَةَ ، وَلِذَلِكَ أَنِّي لَمْ أَسْتَشْكِلْ ذَلِكَ إلَّا وَالسَّمَاءُ مُصْحِيَةٌ وَالْحِسُّ لَا يَجِدُ شَيْئَانِ مِنْ الْفَجْرِ ، أَمَّا لَوْ كَانَ حِسَابُهُمْ يَظْهَرُ مَعَهُ الْفَجْرُ مَعَ الصَّحْوِ طَالِعًا مِنْ الْأُفُقِ وَيَخْفَى مَعَ الْغَيْمِ لَمْ أَسْتَشْكِلْهُ ، وَقُلْت : إنَّمَا يَخْفَى لِأَجْلِ الْغَيْم لَا لِأَجْلِ عَدَمِهِ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ لَمَّا رَأَيْت حِسَابَهُمْ فِي الصَّحْوِ لَا يَظْهَرُ مَعَهُ الْفَجْرُ عَلِمْت أَنَّ حِسَابَهُمْ يُقَارِنُ عَدَمَ السَّبَبِ فَإِنَّ الْحِسَّ كَمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْفَجْرِ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى عَدَمِهِ بِاتِّسَاقِ الظُّلْمَةِ وَعَدَمِ الضِّيَاءِ ، فَهَذَا جَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ لَا أَنِّي سَوَّيْت بَيْنَ الْأَهِلَّةِ وَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ".

أدر عينك الآن في كل العالم الإسلامي و قل كم مسلماً يستخدم ظل العود ليعرف متى دخل وقت الصلاة.

و أيضاً بالنسبة لوحدة المطالع أو اختلافها فإن الإمام أحمد بن حنبل و الكثيرمن الفقهاء الحنفية والمالكية و الشافعية كانوا يرون أن قصد النبي ( ص ) في حديثه " صوموا لرؤيته و أفطروا لرؤيته " هو وحدة المطالع و أن خطابه ( ص ) خطاب موجه للأمة جمعاء. ووضح الإمام القرافي رأي المالكية و الحنابلة قائلاً:
"بِأَنَّ رُؤْيَةَ الْهِلَالِ بِمَكَانٍ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا إذَا ثَبَتَتْ لَزِمَ النَّاسَ كُلَّهُمْ الصَّوْمُ , وَأَنَّ حُكْمَ مَنْ لَمْ يَرَهُ حُكْمُ مَنْ رَآهُ , وَلَوْ اخْتَلَفَتْ الْمَطَالِعُ نَصًّا قَالَ أَحْمَدُ الزَّوَالُ فِي الدُّنْيَا وَاحِدٌ بِقَوْلِهِ صلى الله تعالى عليه وسلم { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ } وَهُوَ خِطَابٌ لِلْأُمَّةِ كَافَّة".ً

و كذلك يذهب الإمام ابن قدامة المقدسي إلى وجوب اتباع المسلمين لوحدة المطالع:
"وأجمع المسلمون على وجوب صوم شهر رمضان وقد ثبت أن هذا اليوم من شهر رمضان بشهادة الثقات فوجب صومه على جميع المسلمين ولأن شهر رمضان ما بين الهلالين وقد ثبت أن هذا اليوم منه في سائر الأحكام من حلول الدين ووقوع الطلاق والعتاق ووجوب النذور وغير ذلك من الأحكام فيجب صيامه بالنص والإجماع ولأن البينة العادلة شهدت برؤية الهلال فيجب الصوم".

و يروي لنا الفقيه الحنفي عثمان بن علي الزيلعي رأي الأحناف في مطالبتهم المسلمين بوحدة المطالع قائلاً:
"وَإِذَا ثَبَتَ فِي مِصْرَ لَزِمَ سَائِرَ النَّاسِ فَيَلْزَمُ أَهْلَ الْمَشْرِقِ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ".

و الموسوعة الفقهية تلخص لنا فيما يلي آراء أءلئك الفقهاء من السلف:
"ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : إلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ فِي إثْبَاتِ شَهْرِ رَمَضَانَ , فَإِذَا ثَبَتَ رُؤْيَةُ هِلَالِ رَمَضَانَ فِي بَلَدٍ لَزِمَ الصَّوْمُ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ , وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ } وَهُوَ خِطَابٌ لِلْأُمَّةِ كَافَّةً".

من المهم أن نلاحظ هنا أن فقهاء السلف قد أكدوا على أن رؤية الهلال في بلد من البلاد الإسلامية هي السبب الشرعي لوجوب الصوم على جميع البلاد الإسلامية كما يذكر الإمام القرافي:

“أَنَّ جَعْلَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْأَحْنَافِ وَالْحَنَابِلَةِ رُؤْيَةَ الْهِلَالِ فِي بَلَدٍ مِنْ الْبُلْدَانِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ فِي جَعْلِهِمْ لِكُلِّ قَوْمٍ رُؤْيَتَهُمْ مَعَ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ فَجْرَهُمْ وَزَوَالَهُمْ وَعَصْرَهُمْ وَمَغْرِبَهُمْ وَعِشَاءَهُمْ”

لكن الفقهاء الذين جاؤوا بعدهم مثل القرافي و الزيلعي و ابن عابدين وغيرهم رفضوا أن تكون رؤية بلد إسلامي واحد سبباً شرعياً لوجوب صيام رمضان على باقي بلاد المسلمين. كما حملوا حديث النبي ( ص ) على أنه خاص لكل جماعة، و أن لأهل كل بلد رؤيتهم، و استدلوا بنفس الحديث للخروج بحكم مناقض لما خرج به الأولون و تذكر الموسوعة الفقهية أن الإمام القرافي بين "اخْتِلَافَ مَطَالِعِ الْهِلَالِ عِلْمِيًّا , وَذَكَرَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِهِ مُكْتَفِيًا بِهِ عَنْ الْبَقِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ : وَهُوَ أَنَّ الْبِلَادَ الْمَشْرِقِيَّةَ إذَا كَانَ الْهِلَالُ فِيهَا فِي الشُّعَاعِ وَبَقِيَتْ الشَّمْسُ تَتَحَرَّكُ مَعَ الْقَمَرِ إلَى الْجِهَةِ الْغَرْبِيَّةِ فَمَا تَصِلُ الشَّمْسُ إلَى أُفُقِ الْمَغْرِبِ إلَّا وَقَدْ خَرَجَ الْهِلَالُ عَنْ الشُّعَاعِ فَيَرَاهُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ وَلَا يَرَاهُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ".

و يقول القرافي:
أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ جَعَلُوا رُؤْيَةَ الْهِلَالِ فِي بَلَدٍ مِنْ الْبِلَادِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَوَافَقَتْهُمْ الْحَنَابِلَةُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ . وَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِكُلِّ قَوْمٍ رُؤْيَتُهُمْ وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ فَجْرَهُمْ وَزَوَالَهُمْ وَعَصْرَهُمْ وَمَغْرِبَهُمْ وَعِشَاءَهُمْ فَإِنَّ الْفَجْرَ إذَا طَلَعَ عَلَى قَوْمٍ يَكُونُ عِنْدَ آخَرِينَ نِصْفَ اللَّيْلِ وَعِنْدَ آخَرِينَ نِصْفَ النَّهَارِ وَعِنْدَ آخَرِينَ غُرُوبَ الشَّمْسِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَمَا مِنْ دَرَجَةٍ تَطْلُعُ مِنْ الْفَلَكِ أَوْ تَتَوَسَّطُ أَوْ تَغْرُبُ إلَّا فِيهَا جَمِيعُ الْأَوْقَاتِ بِحَسَبِ آفَاقٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَقْطَارٍ مُتَبَايِنَةٍ فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فِي أَقْصَى الْمَشْرِقِ كَانَ نِصْفَ اللَّيْلِ عِنْدَ الْبِلَادِ الْمَغْرِبِيَّةِ مِنْهُمْ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى حَسَبِ الْبُعْدِ عَنْ ذَلِكَ الْأُفُقِ غَرَبَتْ الشَّمْسُ فِي أَقْصَى الْمَغْرِبِ كَانَ نِصْفَ اللَّيْلِ عِنْدَ الْبِلَادِ الْمَشْرِقِيَّةِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ بِحَسَبِ قُرْبِ ذَلِكَ الْقُطْرِ مِنْ الْقُطْرِ الَّذِي غَرَبَتْ فِيهِ الشَّمْسُ ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأَوْقَاتِ تَخْتَلِفُ هَذَا الِاخْتِلَافَ" .

ثم يذكر القرافي مسألة أخرى:
وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي الْفَتَاوَى الْفِقْهِيَّةِ مَسْأَلَةٌ أَشْكَلَتْ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي أَخَوَيْنِ مَاتَا عِنْدَ الزَّوَالِ أَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ وَالْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ أَيُّهُمَا يَرِثُ صَاحِبَهُ فَأَفْتَى الْفُضَلَاءُ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْمَغْرِبِيَّ يَرِثُ الْمَشْرِقِيَّ ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمَشْرِقِ قَبْلَ زَوَال الْمَغْرِبِ فَالْمَشْرِقِيُّ مَاتَ أَوَّلًا فَيَرِثُهُ الْمُتَأَخِّرُ لِبَقَائِهِ بَعْدَهُ حَيًّا مُتَأَخِّرَ الْحَيَاةِ فَيَرِثُ الْمَغْرِبِيُّ الْمَشْرِقِيَّ إذَا تَقَرَّرَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْآفَاقِ ، وَأَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ فَجْرَهُمْ وَزَوَالَهُمْ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْقَاتِ فَيَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْأَهِلَّةِ بِسَبَبِ أَنَّ الْبِلَادَ الْمَشْرِقِيَّةَ إذَا كَانَ الْهِلَالُ فِيهَا فِي الشُّعَاعِ وَبَقِيَتْ الشَّمْسُ تَتَحَرَّكُ مَعَ الْقَمَرِ إلَى الْجِهَةِ الْغَرْبِيَّةِ فَمَا تَصِلُ الشَّمْسُ إلَى أُفُقِ الْمَغْرِبِ إلَّا وَقَدْ خَرَجَ الْهِلَالُ مِنْ الشُّعَاعِ فَيَرَاهُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ وَلَا يَرَاهُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ هَذَا أَحَدُ أَسْبَابِ اخْتِلَافِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَلَهُ أَسْبَابٌ أُخَرُ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ لَا يَلِيقُ ذِكْرُهَا هَاهُنَا إنَّمَا ذَكَرْت مَا يَقْرُبُ فَهْمُهُ".

الأمام القرافي يستنتج من هذا بأن الهلال يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْآفَاقِ ويجب "أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ قَوْمٍ رُؤْيَتُهُمْ فِي الْأَهِلَّةِ كَمَا أَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ فَجْرَهُمْ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ ، وَهَذَا حَقٌّ ظَاهِرٌ وَصَوَابٌ مُتَعَيِّنٌ أَمَّا وُجُوبُ الصَّوْمِ عَلَى جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ بِقُطْرٍ مِنْهَا فَبَعِيدٌ عَنْ الْقَوَاعِدِ ، وَالْأَدِلَّةُ لَمْ تَقْتَضِ ذَلِكَ فَاعْلَمْهُ" .

كما صرح النووي من الشافعية أن الكثير من أكابر العلماء ذهبوا إلى اختلاف المطالع لتباعد البلدان:
"إذَا رَأَوْا الْهِلَالَ فِي رَمَضَانَ فِي بَلَدٍ وَلَمْ يَرَوْهُ فِي غَيْرِهِ , فَإِنْ تَقَارَبَ الْبَلَدَانِ فَحُكْمُهُمَا بَلَدٌ وَاحِدٌ وَيَلْزَمُ أَهْلُ الْبَلَدِ الْآخَرِ الصَّوْمُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ تَبَاعَدَا فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ ( أَصَحُّهُمَا ) لَا يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ الْآخَرِ , وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَآخَرُونَ , وَصَحَّحَهُ الْعَبْدَرِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ . ( وَالثَّانِي ) يَجِبُ وَبِهِ قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالدَّارِمِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ وَغَيْرُهُمْ".

و نقل النووي عن ابْنُ الْمُنْذِرِ وعَنْ عِكْرِمَةَ وَالْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ "أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ غَيْرَ أَهْلِ بَلَدِ الرُّؤْيَةِ".



و يتجه الزيلعي الحنفي إلى الرأي ذاته والذي يقول باختلاف المطالع:
"وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُعْتَبَرَ لِأَنَّ كُلَّ قَوْمٍ مُخَاطَبُونَ بِمَا عِنْدَهُمْ وَانْفِصَالُ الْهِلَالِ عَنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَقْطَارِ كَمَا أَنَّ دُخُولَ الْوَقْتِ وَخُرُوجَهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَقْطَارِ".
كذلك يقول ابن عابدين:
"اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ لَا نِزَاعَ فِيهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَيْنَ الْبَلْدَتَيْنِ بُعْدٌ بِحَيْثُ يَطْلُعُ الْهِلَالُ لَهُ لَيْلَةَ كَذَا فِي إحْدَى الْبَلْدَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى وَكَذَا مَطَالِعُ الشَّمْسِ ; لِأَنَّ انْفِصَالَ الْهِلَالِ عَنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَقْطَارِ حَتَّى إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ فِي الْمَشْرِقِ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَزُولُ فِي الْمَغْرِبِ , وَكَذَا طُلُوعُ الْفَجْرِ وَغُرُوبُ الشَّمْسِ بَلْ كُلَّمَا تَحَرَّكَتْ الشَّمْسُ دَرَجَةً فَتِلْكَ طُلُوعُ فَجْرٍ لِقَوْمٍ وَطُلُوعُ شَمْسٍ لِآخَرِينَ وَغُرُوبٌ لِبَعْضٍ وَنِصْفُ لَيْلٍ لِغَيْرِهِمْ كَمَا فِي الزَّيْلَعِيِّ".

و يقول أيضا:
"وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الضَّرِيرَ الْفَقِيهَ صَاحِبَ الْمُخْتَصَرِ قَدِمَ الْإِسْكَنْدَرِيَّة فَسُئِلَ عَمَّنْ صَعِدَ عَلَى مَنَارَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَيَرَى الشَّمْسَ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ بَعْدَمَا غَرَبَتْ عِنْدَهُمْ فِي الْبَلَدِ أَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فَقَالَ لَا وَيَحِلُّ لِأَهْلِ الْبَلَدِ لِأَنَّ كُلًّا مُخَاطَبٌ بِمَا عِنْدَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَطَالِعِ مَا رُوِيَ عَنْ كُرَيْبٌ".

وَفِي الصَّحِيحِ للإمام مسلم عَنْ كُرَيْبٍ: "{ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بَعَثَتْهُ إلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بِالشَّامِ قَالَ : فَقَدِمْت الشَّامَ فَقَضَيْت حَاجَتَهَا , وَاسْتَهَلَّ عَلَيَّ هِلَالُ رَمَضَانَ وَأَنَا بِالشَّامِ , فَرَأَيْت الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ , ثُمَّ قَدِمْت الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ , فَسَأَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ , ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ فَقَالَ : مَتَى رَأَيْته ؟ فَقُلْت : لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ , فَقَالَ : أَنْتَ رَأَيْته ؟ قُلْت : نَعَمْ , وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ قَالَ : لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ , فَقُلْت لَهُ : أَوَلَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ ؟ قَالَ : لَا ; هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم }".

يستنبج العظيم آبادي من الرواية السابقة أن المطالع تختلف باختلاف البلدان:
"ووجه الاحتجاج به أن ابن عباس لم يعمل برؤية أهل الشام وقال في آخر الحديث هكذا أمرنا، فدل ذلك على أنه قد حفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يلزم أهل بلد العمل برؤية أهل بلد آخر".

كذلك يرى الإمام ابن العربي أن الحديث يدل على اختلاف المطالع:

"وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا ، فَقِيلَ : رَدَّهُ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ ، وَقِيلَ : رَدَّهُ ؛ لِأَنَّ الْأَقْطَارَ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْمَطَالِعِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ كُرَيْبًا لَمْ يَشْهَدْ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ حُكْمٍ ثَبَتَ بِشَهَادَةٍ ؛ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالشَّهَادَةِ يُجْزَى فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ ؛ وَنَظِيرُ مَا لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَهَلَّ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِأَغْمَاتَ ، وَأَهَلَّ بِإِشْبِيلِيَّةَ لَيْلَةَ السَّبْتِ ، فَيَكُونُ لِأَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ سُهَيْلًا يُكْشَفُ مِنْ أَغْمَاتَ وَلَا يُكْشَفُ مِنْ إشْبِيلِيَّةَ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ".

أما الإمام الشوكاني فيستدل بنفس الرواية على عدم الأخذ بإختلاف المطالع:
"وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُجَّةَ إنَّمَا هِيَ فِي الْمَرْفُوعِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا فِي اجْتِهَادِهِ الَّذِي فَهِمَ عَنْهُ النَّاسُ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ : " هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " هُوَ قَوْلُهُ : فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ , وَالْأَمْرُ الْكَائِنُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا بِلَفْظِ : { لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ , وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ } وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ نَاحِيَةٍ عَلَى جِهَةِ الِانْفِرَادِ بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى لُزُومِ رُؤْيَةِ أَهْلِ بَلَدٍ لِغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ أَظْهَرُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى عَدَمِ اللُّزُومِ لِأَنَّهُ إذَا رَآهُ أَهْلُ بَلَدٍ فَقَدْ رَآهُ الْمُسْلِمُونَ فَيَلْزَمُ غَيْرَهُمْ مَا لَزِمَهُم".

فنرى هنا أن بعض العلماء قد تبنوا آراء فقهية غير التي تبنتها مدراسهم فأين الصواب؟ و أين الحق في أقوالهم واستنتاجاتهم هذه؟ و من هو الذي فهم قصد النبي ( ص ) و قال بقوله؟ و إذا كان واحد من القولين صحيح ممثل لرأي النبي ( ص ) فهل معنى ذلك أن كل من اتبع الرأي الآخر أخطأ في صيامه و أخطأ في فطره؟ و إذا كان مقصد النبي ( ص ) هو واحد من القولين فلماذا لم يوضحه ( ص ) بقول واضح الدلالة وضوحاً قطعياً، يوفر فيه على المسلمين الاختلاف والوقوع في الخطأ؟. أسئلة عديدة ممكن أن ترد إلى ذهن أي مسلم قد يسأل عنها و قد يستحيي. لكن الجواب عليها واحد، و هو أن النبي ( ص ) و هو الذي ( لا ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى ) قد قصد ( ص ) أن يستخدم كلمات لها تأويلات و تفسيرات، ليس المقصود منها أن يختلف المسلمين اختلافاً يفرقهم بل ليفهم منها أهل كل عصر ما يناسب عصرهم، و ليستخرج منها أهل كل زمان ما يناسب زمانهم. و إذا دققنا في هذه الأحاديث نرى أن ألفاظه ( ص ) التي تتعلق بالمقاصد واضحة ثابتة الدلالة، أما ألفاظه ( ص ) التي تتعلق بالوسائل التي من خلالها يتم الوصول إلى المقاصد فهي التي تحتمل التأويل لاختلاف الأزمان و الأمكنة و الأحوال و لأنها رسالة عالمية لكل زمان و مكان إلى أن يرث الله الأرض و من عليها، فالمقاصد ثابتة لكل عصر و زمان و مكان لكن الوصول إلى تحقيقها هو الذي يتأثر بالزمان و المكان و الأحوال. فسبحان الله العليم الحكيم.

أما بالنسبة لقوله ( ص ): " نحن أمة أمية لا نكتب و لا نحسب "، فهو توصيف للحال و ليس أمر منه ( ص ) بالإبقاء على هذه الحال و لو كان كذلك لقلنا بحرمة تعلم الكتابة اعتماداً على هذا الحديث، لكن طالما أن الكتابة و العلم مأمور به في ديننا، و طالما أن الكثير من المسلمن يكتبون و طالما أننا لم نحرم الكتابة رغم وجود هذا الحديث فإن الحساب غير محرم رغم وجود هذا الحديث، فهو مأمور به أيضاً حيث قال الله سبحانه و تعالى:" لتعلموا عدد السنين و الحساب".

أما الادعاء بأن الحسابات فيها مشقة و تعسير على المسلمين، فنحن نقول أن هذا القول هو حق في العصور القديمة أما الآن فأصبحت الحسابات الفلكية هي الأيسر للمسلمين، و صارت المشقة عندهم في الانتظار حتى وقت متأخر من الليل لمعرفة نتيجة الرؤية و خاصة عند المسلمين في الغرب فهم لا يستطيعون معرفة يوم الصيام أو يوم العيد إلا في آخر لحظة من اليوم التاسع و العشرين من شعبان بالنسبة لرمضان و آخر لحظة في اليوم التاسع و العشرين من رمضان بالنسبة للاحتفال بعيد الفطر، أحياناً يضطر المسلمون في الغرب - و هم كثير- أن ينتظروا حتى الساعة الثانية عشر منتصف الليل حتى يصل الخبر من لجان رؤية الهلال و من المنظمات الإسلامية المعتمدة مما يعسر عليهم أخذ الإجازات من أعمالهم لقضاء أول أيام رمضان، و أول أيام العيد بين الأهل و الأولاد و الجالية المسلمة، و معروف عند مسلمي الغرب كم هو مهم و أساسي أن يستغل الأهل هذه المناسبات الدينية التي تعينهم على غرس الروح الإسلامية و تعليم أولادهم دينهم و طقوسه و جمالها و ربطهم بالأحداث و الأعياد و المناسبات الشرعية، و إشعارهم أن عيد المسلمين أو رمضان هو مناسبة خاصة مقدسة عندنا، و يعلمون أولادهم أهمية وحدة المسلمين و أهمية تجمعهم، لذا يكون من المحرج و المزعج للأهل عدم التمكن من أخذ إجازات لعدم معرفتهم بوقت رمضان أو العيد بمدة كافية، كما أنه يفتح المجال أمام غير المسلمين من المدراء أو زملاء العمل أو زملاء الدراسة للاستهزاء بالإسلام و المسلمين والسخرية منهم لأنهم مازالوا يتبعون طرقاً قديمةً أكل الدهر عليها و شرب، و خاصة أن هناك طرقاً علمية دقيقة معتمدة من كل العالم، و يعتمدها المسلمون أنفسهم في أغلى و أهم عباداتهم ألا و هي الصلاة.

و هناك أمر آخر غاية في الأهمية و هي وحدة المسلمين، و كم هو مخز، و كم هو مؤسف، أن نرى المسلمين متفرقين حتى في أعيادهم. و كم هو محرج و مؤلم للمسلمين و خصوصاً الذين يعيشون منهم في الغرب عندما يرى أولادهم الصغار كيف أن المسلمين الكبار الذين هم قدوة لهم يرونهم متفرقين. فترى في البلد الواحد في الغرب كل مسجد يصوم و يفطر على هواه، فهذا يتبع اختلاف المطالع، و الآخر يعتمد وحدة المطالع، و هذا يصوم مع السعودية و الآخر يحتفل بالعيد مع بلده الأم، و كل مسجد يعيب على الآخر و كل مسجد يرى أنه يطبق أمر الله و أنه هو الصحيح. و أولادنا في الغرب يكبرون نافرين من صورة المسلمين، يرون المسجدين مختلفين في صيامهما و عيدهما و بينهما بضعة أميال، إن وحدة المسلمين هي من أولى الأولويات في زماننا هذا، ولقد علمنا القرآن و السنة المطهرة أن الأولى أولى بالاتباع، و أنه عندما تكون هناك غاية كبرى، أو حاجة كبرى، أو أمر مهم جلل فإن كل شئ يسير في خدمة هذا الأمر ما لم يكن حراماً أو فيه ترك لواجب. فقد علمنا الله سبحانه و تعالى في كتابه العزيز أنه في بداية الإسلام كانت القضية الكبرى و الفيصل هي قضية التوحيد و معظم العبادات إن لم يكن كلها مع أهميتها و أساسها في الدين لم تفرض من الله في ذلك الحين بل كانت كل الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية تصب في نفس المكان و هو التوحيد و اليوم الآخر و قصص الأمم السابقة لما كفروا و كل ما يثبت المسلمين و يجعلهم مطمئنين أنهم على الحق و أنهم منصورون، إقرأ إذا شئت كل الآيات المكية و آيات العصر الآول للرسالة، واقرأ إذا شئت أحاديث النبي ( ص ) في هذه الفترة و التي تصب في نفس المصب من التوحيد و الصبر و الجنة و النار و تثبيت المسلمين. أما في العصر المدني و بعد نشوء أول مجتمع إسلامي بحمد الله برزت الحاجة إلى تنظيم أحوال المسلمين و علاقاتهم بكل ما و من حولهم. علاقتهم بخالقهم سبحانه و تعالى فجاءت آيات و أحاديث العبادات، و علاقاتهم بأهلهم , أنفسهم، و أعدائهم، و غير المسلمين من محاربين و مسالمين. و إذا طبقنا هذا النظام الذي سارت عليه آيات الله و أحاديث نبيه ( ص ) فإننا نعلم من غير شك أن وحدة المسلمين في هذا الزمان هي من أولى أولوياتهم، و من أهم مسؤولياتهم، فبالاضافة إلى أنها فرض بحد ذاتها فإنها في هذه الأحوال و في هذه الظروف و النكبات و الانهزامات التي يعيشها المسلمون و التي لا تخفى على ذي لب هي من أهم الفروض الواجب علينا الاهتمام بها، و السعي لها، و أن نجعل كل امكانياتنا و فقهنا و كل وسيلة لدينا تصب في مصبها و تسير في خدمتها، لأن وحدة المسلمين هي الوسيلة الوحيدة التي ستعيد لهم قوتهم و هيبتهم و توقف كل معتد مستبيح لحرماتهم. و أي مظهر من مظاهر وحدة المسلمين هو دعم لهم، فكيف إذا ظهرت وحدة الخمسة مليارات من المسلمين في صومهم و فطرهم و عيدهم. و لو كانت وحدة المسلمين هي الفائدة الوحيدة من ابتاع الحسابات الفلكية لكفى بها و نعمت.

و إذا عدنا إلى ما قلناه من احتجاج البعض بأن ابتاع الحسابات الفلكية عسير على المسلمين فإننا نقول
أن وسائل الاتصال كانت بطيئة و أن سريان الخبر بين الأمصار كان يأخذ من الوقت الكثير، بالإضافة إلى أن هذا العلم لم يكن متداولاً إلا عند قلة من الناس، أما في وقتنا الحالي فكلنا ندرك أن ثورة الاتصالات التي ظهرت في القرن العشرين حولت العالم إلى قرية صغيرة يسهل فيها انتقال الخبر، بل أكثر من ذلك فقد أصبح الإنسان يستطيع أن يرى مباشرة و من مكانه ما يحصل في أقصى الأرض بضعطة زر و ذلك في الزمن صفر، صار الإنسان يرى كل شئ أمامه و ليس بينه و بين الحدث إلا بضع أمتار أو بضع سنتمرات، يراه حياً مباشراً بالصوت والصورة. لذا صار انتقال الخبر من اليسر بمكان بحيث لم يعد يشكل أي صعوبة، بل صار هو الأسهل. كما أن أي فرد في الأمة في أي مكان في العالم يستطيع بكل سهولة و يسر، و بضغطة زر أن يفتح أي موقع من المواقع الإلكترونية للجامعات و مراكز المراقبة البحرية و المواقع العلمية و الفلكية و ما إلى هنالك، فيعرف بلحظة واحدة متى ستكون ولادة القمر و متى يستطيع أن يبدأ بالصوم يقيناً، و يخرج منه يقيناً – و كفى الله المؤمنين القتال -.

قال الله سبحانه و تعالى: " يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر" و قال " يريد الله أن يخفف عنكم و خلق الإنسان ضعيفا ". و قال ( ص ): " بشرا و لا تنفرا، و يسرا و لا تعسرا ". التيسير هو مبدأ عظيم في الدين، و من باب التيسير و رفع الحرج عن المسلمين و مراعاة مصالح العباد منفردين و مصلحة الأمة جمعاء فإن على الفقهاء و علماء الأمة أن ينظروا في هذه القضية نظرة عميقة و أن يزنوا الأمور بموازينها لكي يصونوا الأمة من الحرج و الشقاق و الاختلاف غير المحمود في أمر تعبدي هام كبداية صيام رمضان، و توقيت الاحتفال بعيد الفطر. و إسهاماً منا في ذلك فإننا نحاول في هذا البحث أن نثبت أن القرآن و السنة لم يطالبا المسلمين بالرؤية البصرية على أنها الطريقة الوحيدة لإثبات شهر رمضان و أنها هي مطلوبة مفروضة بحد ذاتها. و سنحاول أيضاً أن نثبت أن الاعتماد على الحسابات الفلكية ليس محرماً و ليس فيه مخالفة للقرآن أو معارضة للسنة أو مناقضة للإجماع, بل هو الأفضل و الأدق و الأيسر في إثبات دخول شهر رمضان أو نفيه. و كما يقول الشيخ أحمد شاكر بأن ( استخدام الحسابات الفلكية ) هو أعدل الأقوال و أقربها إلى الأحاديث الواردة في هذا الباب. و قد ذهب المجلس الفقهي الأوربي، و المجلس الفقهي لشمال أمريكا إلى أن ولادة القمر هي أمر محدد، حتمي في العالم كله يحدث في آن واحد لا يختلف عليه اثنان. و بما أن الله سبحانه و تعالى قال: " الشمس و القمر بحسبان ", و قال: " هو الذي جعل الشمس ضياء و القمر نوراً و قدره منازل لتعلموا عدد السنين و الحساب ". فإن المجالس الفقهية السالفة الذكر قبلت بأن ولادة القمر و وجوده في الأفق في مكة بعد غروب الشمس و لو بلحظة واحدة يثبت دخول شهر رمضان في العالم كله.

هذه الفتوى ستؤدي بإذن الله إلى رفع الحرج عن الكثير من المسلمين، كما أنها ستيسر عليهم أمور دينهم و دنياهم, و ستؤدي إن شاء الله أيضاً إلى وحدة المسلمين إذا ما اتبعوها في كل أماكنهم و بلدانهم, و ستؤدي إلى الدخول في العبادة باليقين، و الخروج منها باليقين.

و في الصفحات التاليات من بحثنا هذا سوف نناقش هذه القضية بالتفصيل، و سوف نتعرض لأدلة كل من الفريقين سواءً من ذهب منهم إلى منع استخدام الحسابات الفلكية لإثبات أو نفي الشهر و من قبلها، سنناقش آراءهم و نحللها. و نفصل و نحلل و نغوص في الأحاديث النبوية الشريفة نستخرج من كنوزها ما يفتح الله به علينا، فإن الكتاب العزيز و الأحاديث الشريفة هي كالبحر الزاخر بالكنوز لا ينضب أبداً، كلما غصت فيه أعمق كلما خرجت باللألئ و الدرر، و لله المثل الأعلى.
فإلى بحثنا.

أدلة جمهور الفقهاء:

إن عدم الأخذ بالحسابات الفلكية لتحديد شهر رمضان هو الرأي المرجح عند جمهور العلماء في كل المدارس الفقهية. فالحسابات الفلكية في نظرهم تستند إلى مجرد افتراضات و تخمينات, مما يجعل الاعتماد عليها في العبادات الرئيسية في الإسلام كتحديد بداية شهر رمضان أو نهايته أمر غير مقبول.

بناء على هذا الرأي نفهم أن الشهور الإسلامية و المرتبطة بمواسم العبادات مثل رمضان و ذي الحجة لا يمكن
تحديدها إلا بإحدى طريقتين: الرؤية البصرية, أو إكمال عدة الشهر ثلاثين يوماً.

يقول القرآن الكريم:
"شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخريريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون." (البقرة: 185)

فسر بعض العلماء هذه الآية الكريمة ( فمن شهد منكم الشهر ) بأن معنى كلمة شهد هو الرؤية البصرية. و يبدو أن الأحاديث الصحيحة والمتعلقة بنفس الموضوع قد فسرت بنفس الطريقة كما سنبين:

حدّثنا آدمُ حدَّثَنا شُعبةُ حدَّثَنا محمدُ بنُ زيادٍ قال: سمعتُ أبا هُريرةَ رضيَ اللّهُ عنهُ يقول: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم ـ أو قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم ـ «صُوموا لِرُؤْيتهِ وأفطِروا لرُؤيته، فإن غُبِّيّ عليكم فأكملوا عِدَّةَ شَعبانَ ثلاثين». .

وحدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ. حَدَّثَنَا أَبِي. حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ. فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمُ الشَّهْرُ فَعُدُّوا ثَلاَثِينَ».

حدّثنا عبدُ اللّهِ بنُ مَسْلمةَ عن مالكٍ عن نافعِ عن عبدِ اللّهِ بنِ عُمَر رضيَ اللّهُ عنهما: «أنَّ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ رَمضان فقال: لا تَصوموا حتّى تَرَوُا الهلالَ، ولا تُفْطِرُوا حتّى تَرَوْه، فإِن غُمَّ عليكم فاقدُروا له».

حدثنا عبد الله ، حدثني أبي ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا حتى تَرَوا الهلال، ولا تفطروا حتى تَرَوْه، فانْ غُمَّ عليكم فاقْدُرُوا له

ذكر الفقيه الحنفي المشهور أبو بكر الجصاص ما يلي:

"قَالَ أَبُو بَكْر : قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ " مُوَافِقٌ لقوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ وَالْخَبَرِ فِي اعْتِبَارِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي إيجَابِ صَوْمِ رَمَضَانَ , فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الْهِلَالِ هِيَ شُهُودُ الشَّهْر".

فهو يرى أن الرؤية البصرية تحديداً هي الطريقة الوحيدة التي ذكرت في حديث النبي ( ص ) للتثبت من دخول شهر رمضان, أما إذا تعذر ذلك لسوء الأحوال الجوية مثلاً, و صار من الصعب رؤية هلال شهر رمضان بالعين المجردة في التاسع والعشرين من شهر شعبان فإن إكمال عدته ثلاثين يوماً هي الطريقة الوحيدة و البديلة لتعيين بداية شهر رمضان. و هذه هي القاعدة العامة في إثبات دخول شهر رمضان في رأي الجصاص.

"وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ , فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ } هُوَ أَصْلٌ فِي اعْتِبَارِ الشَّهْرِ ثَلَاثِينَ , إلَّا أَنْ يُرَى قَبْلَ ذَلِكَ الْهِلَالُ , فَإِنَّ كُلَّ شَهْرٍ غُمَّ عَلَيْنَا هِلَالُهُ فَعَلَيْنَا أَنْ نَعُدَّهُ ثَلَاثِينَ . هَذَا فِي سَائِرِ الشُّهُور الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَحْكَامُ, وَإِنَّمَا يَصِيرُ إلَى أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثِينَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ".

على ضوء حديث رسول الله ( ص ) نرى أن القاعدة العامة في إكمال الشهر إلى تمامه – ثلاثين يوماً – و ذلك إذا لم يشاهد هلال الشهر الجديد في اليوم التاسع والعشرين. و عليه فإننا يجب أن نكمل عدة أي شهر لا يتسنى لنا رؤية الهلال فيه.هذه القاعدة تطبق على كل الشهور المرتبطة بالعبادات الشرعية.الرؤية البصرية للهلال هي فقط التي تجعل الشهر أقل من ثلاثين يوماُ. و يقول الجصاص أيضاً أن هناك إجماع بين علماء المسلمين على عدم قبول الحسابات الفلكية في تحديد بداية شهر رمضان أو انتهائه.

"فَالْقَائِلُ بِاعْتِبَارِ مَنَازِلِ الْقَمَرِ وَحِسَابِ الْمُنَجَّمِينَ خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ . وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مِمَّا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ , لِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَنَصِّ السُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ بِخِلَافِه". ِ

يقول العلامة بدر الدين العينيً:

"لا يصح اعتقاد رمضان إلاَّ برؤية فاشية أو شهادة عادلة، أو إكمال شعبان ثلاثين يوما، وعلى هذا مذهب جمهور فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والشام والمغرب، منهم مالك والشافعي والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وعامة أهل الحديث".

إن اتخاذ الرؤية البصرية كوسيلة لتحديد بداية شهر رمضان يعود إلى الحاجة للتثبت أو التأكد القطعي غير الظني لبداية موسم العبادة. كما يرى أبو بكر ابن العربي:

وَهَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ , فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ } . فَفَرَضَ عَلَيْنَا عِنْدَ غُمَّةِ الْهِلَالِ إكْمَالُ عِدَّةِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا , وَإِكْمَالَ عِدَّةِ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا عِنْدَ غُمَّةِ هِلَالِ شَوَّالٍ , حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْعِبَادَةِ بِيَقِينٍ , وَيَخْرُجَ عَنْهَا بِيَقِينٍ . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُصَرَّحًا بِهِ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ , وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ } . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : {احْصُوا هِلَالَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ } الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قوله تعالى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } : مَحْمُولٌ عَلَى الْعَادَةِ بِمُشَاهَدَةِ الشَّهْرِ , وَهِيَ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ , وَكَذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم : { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ } . وَقَدْ زَلَّ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ فَقَالَ : يُعَوَّلُ عَلَى الْحِسَابِ بِتَقْدِيرِ الْمَنَازِلِ , حَتَّى يَدُلَّ مَا يَجْتَمِعُ حِسَابُهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحْوٌ لَرُئِيَ ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ } . مَعْنَاهُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فَأَكْمِلُوا الْمِقْدَارَ , وَلِذَلِكَ قَالَ : { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا } . وَفِي رِوَايَةٍ : { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا صَوْمَ ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ , وَقَدْ زَلَّ أَيْضًا بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَحَكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : يُعَوَّلُ عَلَى الْحِسَابِ وَهِيَ عَثْرَةٌ لَا لَعًا لَهَا".

رأي الجصاص و ابن العربي هذا يمثل رأي أغلبية فقهاء السلف, فالمدارس الفقهية الرئيسية الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية تحرم تحديد بداية الأشهر الإسلامية اعتماداً على الحسابات الفلكية على اعتبارها أنها طريقة غير صحيحة شرعاً. فتعيين هذه الشهور يجب أن يكون مؤكدأً إما بالرؤية البصرية على وجه التحديد أو بإكمال عدة الشهر ثلاثين.
و سوف نرى في الصفحات التالية كيف أثبت هؤلاء العلماء صحة ما ذهبوا إليه.

الفقيه الحنفي أحمد بن محمد الحموي يقول:

"الشَّرْطُ عِنْدَنَا فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ وَلَا يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ . وَفِي التَّهْذِيبِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله : لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمُنَجِّمِ فِي حِسَابِهِ لَا فِي الصَّوْمِ وَلَا فِي الْإِفْطَارِ".

أما الفقيه محمد بن عبد الله الخرشي الذي يمثل الرأي المالكي فيقول:

"الصَّوْمَ يَثْبُتُ بِمَا تَقَدَّمَ لَا بِقَوْلِ مُنَجِّمٍ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَلَا فِي حَقِّهِ هُوَ ; لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ حَصَرَ الثُّبُوتَ فِي : الرُّؤْيَةِ , أَوْ الشَّهَادَةِ , أَوْ إكْمَالِ الْعَدَدِ فَلَمْ يُخْبِرْ بِزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَا قَالَ الْمُنَجِّمُ مَثَلًا : الشَّهْرُ نَاقِصٌ أَوْ زَائِدٌ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ , وَلَا إلَى حِسَابِهِ , وَقَعَ فِي الْقَلْبِ صِدْقُهُ أَمْ لَا".

و الفقيه المالكي محمد بن أحمد الدسوقي يتبع الرأي نفسه بقوله:


Muhammad Syafii Tampubolon | Buat Lencana Anda


Share this article :
free counters

Posting Komentar

 
Support : Creating Website | Template orang | Galash
Copyright © 2011. Nge-blog - All Rights Reserved
Template Created by Creating Website Published by Mas Kolish
Proudly powered by Blogger